1- التخطيط واتخاذ الأسباب : العمل الارتجالي لا يُؤتي أُكُلَه كما لو كان مُعَدّاً إعداداً جيداً ومدروساً دراسة وافية ، معروفة أبعادُه وجدواه ومراحلُه . وكل عمل أو فكرة تخطر على البال لا بد أن تُخطط له تخطيطاً جيداً تراعي فيه الهدف منه وبدايتَه وإتمامَه وإيجابياتِه وسلبياتِه ، وإلا كان عملاً عشوائياً قد ينجح وقد يفشل . واحتمالات فشله أكبر .. وإن نجح فنجاحه مرحليّ أو غير مكتمل . وسورة يوسف تضع بين أيدينا نماذج من التخطيط الذي يؤدي إلى الوصول إلى الهدف المنشود ، سواء كان طيباً أم خبيثاً ، منها : - ما فعله إخوة يوسف حين شعروا أن أباهم يحبه أكثر مما يحبهم ، ويفضله عليهم ، فدبت الغَيرة في نفوسهم وقرروا التخلص منه ، فماذ يفعلون ؟! .. تدارسوا الأمر بينهم وقلّبوا الوجوه ، فقال بعضهم : " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخْلُ لكم وجهُ أبيكم ، وتكونوا من بعده قوماً صالحين " .. تفكير شيطاني سهل لهم فكرة القتل ، فبعد جريمتهم يعودون أتقياء أنقياء! .. وكأن القتل لا يترك في القلب نكتة سوداء تؤرق صاحبَها إلى أن يموت . وقال بعضهم : " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين " .. وهذه الفكرة أخف من القتل ، وإن كانت في حق الأخوّة قاسية جداً .. قلبوا وجوه الأمر فرأوا أن إلقاءه في الجب أسلمُ لهم ، ولن يؤرقهم كما لو أنهم قتلوه ... ثم جاءوا أباهم يقنعونه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف في رحلة برية يتريّضون ويصطادون . وأكدوا له حرصَهم على أخيهم .. فلما أظهر الأب تخوّفه أن يتركوه – وهو صغير – فيعدو عليه الذئب في غفلة منهم فيأكله أقسموا أنهم لن يتركوه ، وإلا كانوا خاسرين، ليست فيهم صفات الرجولة والنباهة ... وكأن يعقوب عليه السلام لقّنهم حجّة هم بحاجة إليها يتعللون بها عند أبيهم ... وهكذا كان . " قالوا : يا أبانا ، مالك لا تأمنّا على يوسف ! وإنا له لناصحون ، أرسلْه معنا غداً يرتع ويلعب ْ ، وإنا له لحافظون . قال : إنني ليَحزُنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون . قالوا لئن أكله الذئب – ونحن عصبة – إنا إذاً لخاسرون " وحبكوا قصتهم ، ورتبوا مكرهم " وجاءوا أباهم عشاءً يبكون ، قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا ، فأكله الذئب ، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ." فقد : 1- جاءوا أباهم عشاءً فلا يرى الغدر في عيونهم ، والكذب في أقوالهم . 2- بدأوا يبكون ، فشعر بالخطب الجسيم قبل أن يُلقوه على سمعه . 3- هيّأه بكاؤهم لتقبل المصيبة ، التي سيسمعها منهم . 4- تلطفوا له بالقول " يا أبانا " ولهذا فائدتان : الفائدة الأولى أن هذه الكلمة للاستعطاف ليرق قلبه لهم فلا يعاقبهم . الفائدة الثانية : إيهامه صدقهم وحرصهم على أخيهم . 5- أسمعوه العذر الذي سمعوه منه في اعتذاره عن إرسال يوسف معهم " أكله الذئب " 6- أنت لا تصدقنا مع أننا صادقون . 7- جاءوا بقميص يوسف ملطخاً بدم للتأكيد على أكل الذئب له .
لكن هذا التخطيط المحكم نقضه خطأ كبير وقعوا فيه دون أن يشعروا حين " وجاءوا على قميصه بدم كذب . قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ." كان القميص ملوثاً بدم لكنه لم يكن ممزقاً ، فالذئب الذي أكله كان ذكياً ! إذ جعله يخلع قميصه قبل أكله كي يستفيد منه إخوته! ... لقد كان التخطيط ناقصاً فيه ثغرة فضحتهم وعرف الأب ذلك ، فقال : هذا مكر دفعه إليكم نفوسكم الخبيثة . - وهذه امرأة العزيز تراود يوسف عن نفسه حين بلغ مبلغ الرجال ، وكان جميلاً وسيماً ، تتفجر الدماء من عروقه ، ويطفح وجهه إشراقاً ، فيأبى ذلك ويقول : " معاذ الله ، إنه ربي أحسن مثواي ، إنه لا يُفلح الظالمون . " فزوْجُها أكرمَ يوسفَ وتعهده بالرعاية ، فكيف يسيء إليه في عرضه وشرفه؟ ! لا يفعل ذلك إلا الخائنون الذين يجازون الإحسان بالسوء ، ويوسفُ ليس منهم . وانتشر الخبر بين نساء المدينة 1- امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه . 2- امتنع عليها وأذلّ كبرياءَها . والأمران وصمة عار عليها ، فأرادت أن تلجم أفواههنّ ، فماذا فعلتْ؟ 1- دعتهنّ إلى قصرها . 2- أكرمتهنّ بالطعام والفاكهة . 3- أمرت يوسف أن يخرج عليهنّ ، فخرج . 4- رأينه فائق الجمال ملَكاً يمشي على الأرض ، فدُهشن لهذا الجمال الأخّاذ . 5- لم يشعرن إلا والدماء تسيل من أصابعهنّ ، فقد أخذهنّ الإعجاب بجماله والدهشة لوسامته كل مأخذ فجرحن أيديَهنّ . 6- شعرت بالانتصار عليهنّ ، فعاتبتهنّ على ما قلن في حقها من تجريح لكرامتها وكبريائها . 7- حين رأت نفسها منتصرة عليهنّ ازدادت وقاحتها ، وباحت بمكنون صدرها لهنّ ، وأصرّت على تعلقها به والرغبة في وصاله ، وسيفعل ذلك شاء أم أبى ، وإلا كان السجن مصيره . وهذه خطة جهنّمية لا يفعلها إلا صاحب الكيد الذكي . " فلما سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ وأعتدت لهنّ متكأً ، وآتت كل واحدة منهنّ سكّيناً ، وقالت اخرج عليهنّ . فلما رأينه أكبرْنه وقطّعن أيديَهنّ . وقلن حاش لله ، ما هذا بشراً ، إن هذا إلا ملك كريم . قالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه . ولقد راودتُه عن نفسه فاستعصم . ولئن لم يفعل ما آمره ليُسْجنَنّ ، وليكونً من الصاغرين ." - ثم تأمل معي كيف خطط يوسف عليه الصلاة والسلام للخروج من السجن . بل كيف خطط الله تعالى له : 1- " وقال الملك ائتوني به " وذلك بعد أن فسر حلم الملك في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وآخر يابسات . 2- فهل أسرع يوسف عليه السلام للخروج من السجن إلى قصر الملك دون أن يظهر الحق ؟ إنه لا يريد أن يعفو عنه أحد إنما يريد أن يخرج من السجن ببراءته من كل اتهام ينقص قدره ، " فلما جاءه الرسول قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديَهنّ ؟ إن ربي بكيدهنّ عليم . " 3- وعاد الرسول إلى القصر يخبر الملك أن يوسف مظلوم يريد أن يخرج من سجنه بريئاً والدليل عند النساء اللاتي دعتهنّ امرأة العزيز إلى قصرها قبل سبع سنوات فدعاهن الملك قائلاً " .. : ما خطبُكن إذ راودْتُنّ يوسفَ عن نفسه؟ " 4- فأقررْن بصدقه وبراءته حين " قلْنَ : حاش لله ، ما علمنا عليه من سوء . " 5- وهنا اعترفت امرأة العزيز بخطئها إذ " قالت امرأة العزيز : الآن حصحص الحق . أنا راودتُه عن نفسه ، وإنه لمن الصادقين . " 6- في المرة الأولى طلب الملك أن يراه فقط : أما حين ظهرت براءته عرف قدره وأكرمه وجعله مستشاره الخاص . فقد قال في الأولى " ا يتوني به " وزاد في الثانية " أستخلصه لنفسي " 7- فلما رآه وكلمه عليه السلام أعجب الملك به – فلا بد من الاختبار . " فلما كلمه قال : إنك اليوم لدينا مكين أمين . " 8- وهنا حين يكون المرء بريئاً وقدره عظيما يسعى أن ينتفع الناس بعلمه وقدراته ، فالمسلم خير وبركة للناس أجمعين . ومن رأى في نفسه المقدرة على خدمة الناس فليقدم نفسه دون خجل ولا مباهاة " قال اجعلني على خزائن الأرض ، إني حفيظ عليم ." وهكذا كان تخطيط الله تعالى له فأخرجه من السجن إلى الصدارة . - وتعال معي نقف على التخطيط في استقدام يوسف أخاه" بنيامين" إلى مصر : من بلاد الشام – فلسطين – . 1- جاء إخوة يوسف للميرة لا يدرون أن القدر ساقهم إلى من ألقوه في الجب ، ثم باعوه بثمن بخس لمن رآه فيه – على رواية من روى أنهم هم الذين باعوه للقافلة - " وجاء إخوة يوسف ، فدخلوا عليه وهم له منكرون . " وهل يخطر ببالهم أن الذي بيع هو السيد الذي يعطي الناس ويعدل بينهم ؟! 2- لما أراد أن يرى أخاه الشقيق – ولم يكن معهم – أظهر تعجبه من كثرتهم ، وهم عشرة رجال . فقالوا : عند أبيهم رجل آخر ، فقال عند ذلك : جيئوا به لأراه ، فإن لم يجئ فلا كيل لكم عندي . " ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون . " وعلى هذا فإنهم - حسب ماظنوا – سيأتون العام القابل ومعهم أخوهم . وسيطلبون من أبيهم أن يصاحبهم أخوهم . وإلا خسروا الميرة ما دام هذا الوزير على رأس عمله . " قالوا سنراود عنه أباه ، وإنا لفاعلون ." ونلمح الإصرار في قولهم " وإنا لفاعلون " لينالوا حصتهم السنوية وليقوم بنيامين بالجهد الذي يقومون به ، فلمَ يظل مكرّماً عند أبيهم دونهم ؟! 3- لكن يوسف لن يصبر على غياب أخيه بنيامين ، وسيسرّع عودتهم فماذا فعل ؟ أمر فتيانه أن يضعوا ثمن ما أخذوه في رحالهم ، وحين يصلون ويفتحون متاعهم سيرون الثمن . ولأنهم من بيت النبوّة فلن يعتبروه غنيمة بل يعيدوه إلى يوسف سريعاً ، ولن يكون سفرهم لإعادة الثمن فقط إنما يغتنمون الفرصة ويعودون بميرة جديدة ، ولكنه لن يُمدهم بها إلا إذا كان أخوه بنيامين معهم .. إذن هي خطة محكمة تجعل يوسف عليه السلام يحظى بأخيه سريعاً .. " وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ، لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم ، لعلّهم يرجعون . " 4- وهكذا سارت الخطة فنرى أبناء يعقوب يقولون لأبيهم : " يا أبانا مُنع منا الكيل ، فأرسل معنا أخانا نكتل ، وإنا له لحافظون . " 5- وزاد الطلب إصراراً حين فتحوا متاعهم ورأوا الثمن فيها فقالوا يرغّبون أباهم : " يا أبانا ما نبغي ؟ هذه بضاعتنا رُدّت إلينا ، ونمير أهلنا ، ونحفظ أخانا ، ونزداد كيل بعير ، ذلك كيل يسير . " 6- ويطلب الأب المفجوع بابنه يوسف - والخائف على ابنه الثاني بنيامين أن يضيع مثل أخيه - العهودَ والمواثيق أن لا يعودوا إلا غانمين بإذن الله تعالى إلا أن يُحاط بهم ، وهذا الاستثناء استسلام لله تعالى وإقرار بأنه سبحانه يفعل ما يشاء ، وأن الغيب لا يعلمه سواه وأن يحافظوا على أخيهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . 7- وأن لا يدخلوا من باب واحد خوفاً من الحاسدين ... ويعطونه المواثيق والعهود وينطلقون ببركة الله إلى مصر عاقدين العزم أن يكونوا عند حسن ظن أبيهم بهم . ونبه يعقوب عليه السلام أبناءه إلى أن الأمر كله بيد الله تعالى إلا أن على الإنسان أن يحتاط ويسلك سبيل الحذر ، وما قدر الله تعالى كائن لا محالة . والرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستعاذة من الحسد ، فيقول : " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة ، ومن كل عين لامّة " كما يعلمنا أن نتعوذ من الشر كله " أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق " ونزلت المعوّذتان : الفلق ، والناس تؤكدان ذلك : " قل: أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ، ومن شر غاسق إذا وقب ، ومن شر النفاثات في العقد ، ومن شر حاسد إذا حسد ". " قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجِنّة والناس ". ويقول الرسول الكريم في هذا الصدد:" علامَ يقتل أحدكم أخاه ؟! ألا بـَرّكـْتَ ( بارك الله فيك) إن العين حق ، توضّاْ له " 8- وأخبر يوسف أخاه بنيامين أنه يوسف وأخبره بالخطة التي اعتزم أن ينفذها ليبقى عنده – ليطمئن ويكون عوناً له - ثم يأتي بالجميع إلى مصر فتتحقق رؤياه التي أخبر بها أباه " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه ، قال : إني أنا أخوك ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " 9- ولا بد من سبب وجيه يبقي أخاه عنده ، فليظهر أنه سرق المكيال ، ومن سرق المكيال يصبح عبداً للمسروق منه ، وهكذا كان " فلما جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ". 10- وتعال معي إلى الأدب في الاتهام فقد انطلقت القافلة لا يدري أحد ما يكون بعد انطلاقهم سوى يوسف وأخيه ... إنّ هناك من يناديهم بما ليس فيهم " أيتها العير إنكم لسارقون " 11- عادوا مستغربين هذا الاتهام الخطير مستفهمين بأدب جم " ماذا تفقدون ؟ " ولم يقولوا : ماذا سرقنا . وعلى المنادي أن يقول إنا افتقدنا ، فإذا وجدوا ما فقدوه في رحالهم قالوا لهم : أنتم سارقون . أما أن يتهموهم مباشرة فليس الاتهام دون دليل من الأخلاق . وقال المنادون " نفقد صواع الملك " فتعلموا الأدب من أبناء يعقوب . 12- وزيادة في التعمية أظهروا أنهم لا يعرفون كيف فقدوه ، وجعلوا لمن يدلهم على السارق حمل بعير – هدية ومكافأة – " ولمن جاء به حمل بعير " 13- فلما أنكر إخوة يوسف هذه التهمة لم يكن بد من تفتيش متاعهم . على أن يرضوا بمعاقبة السارق إن كان منهم بما تحكم شريعة يعقوب حيث يصبح السارق رقيقاً للمسروق منه " قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ؟ قالوا جزاؤه من وُجد في رحله فهو جزاؤه . كذلك نجزي الظالمين " وعلى المسلم أن يحكم بشرع الله الذي أنزل إليه . فأقر أبناء يعقوب بذلك . 14- ولكي لا يشك إخوته في العملية بدأ بتفتيش متاع إخوته ، وترك تفتيش بنيامين للأخير " فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه " 15- وحين استخرج الصواع من وعاء أخيه بدا له أن إخوته مازالوا يكرهونه وأخاه بنيامين حين اتهموا يوسف ظلماً وهو أمامهم لا يعرفونه بأنه سارق أيضاً " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " فكان من حسن تخطيطه وجمال صبره أن تماسك فلم يعرّفهم بنفسه ، ولم يعاقبهم على كذبهم وادّعائهم . بل قال جملة تنم عن شديد حزنه وألمه "أنتم شر مكاناً ، والله أعلم بما تصفون " وهكذا بدأت القصة محبوكة خيوطها بإتقان أدى - بعد ذلك - إلى اعتراف الإخوة بخطئهم أمام يوسف ثم أمام أبيه ، وانطلق الجميع إلى مصر ليعيشوا في كنف الوزير الصالح يوسف بن يعقوب عليهما السلام .
تأملات تربوية في سورة يوسف (2) الدكتور عثمان قدري مكانسي
1- أنزل الله تعالى القرآن على العرب بلسانهم كي يفهموه ويعقلوه " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " فهو سبحانه يريد أن يعلمنا : أ- أن على الداعية أن يكلم الناس بما يفهمون كي يستفيدوا منه ، ويقيم الحجة عليهم . ب- أن يتحملوا المسؤولية الملقاة على عاتقهم في نشر الدعوة ، فالعرب محركها الرئيسي ، والداعون الأوائل المعتمد عليهم في إيصال الدعوة إلى البشرية . 2- في قوله تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين " " أمور مهمة ، منها : أ – أن القرآن من عند الله تعالى وليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس من المعقول أن يدّعي أحد معرفة الغيب ثم يخاطب نفسه بأنه كان من الغافلين ! ب – أن الناجح في دعوته ومهمته يختار أحسن القول ، وأوضحه في حديثه " .. أحسن القصص .. " . ليجذ ب المدعوين ويشوقهم إلى دعوته . 3- إن الإنسان يستشير المحب القريب إلى النفس العطوف الذكي فيما يلم به من أمور ، ويستأنس لرأيه ، فيوسف يخبر أباه بما رأى في رؤياه الغريبة ، فيأتيه جواب الخبير محذراً من الحاسدين الكائدين " ... لا تقصص رؤياك على إخوتك " فما سبب الحذر أيها الأب الحبيب؟ يأتيه الجواب سريعاً " فيكيدوا لك كيداً " وما الحسد إلا نتاج الغيرة والشعور بالدونية ، والرغبة في الاستئثار بالخير ، فما هذه الرؤيا إلا الدليلَ على النبوة التي كان كل من إخوة يوسف يترقب أن يرثها عن أبيه يعقوب ، فإذا بأخيهم الصغير يحوزها دونهم . وسوف يقربه الله تعالى ويرفع مقامه ، " ويعلمه من تأويل الأحاديث " كي يكون المعلم القائد إلى الخير " ويتم نعمته عليك " ومقام النبوّة من أعظم النعم ، وسيحمل الرسالة التي حملها أبوه يعقوب ، وجده إسحاق ، وأبو الأنبياء إبراهيم جدُّ أبيه .... يا لها من مكانة عظيمة وصل إليها يوسف الصدّيق!! وإخوته الذين ينتظرون مثل هذه المكانة – ولا يستحقونها - سيأكل الحسد قلوبهم ويكرهونه ، ويناصبونه العداء ، يؤزهم الشيطان ويؤلبهم عليه ،ومن كان الشيطان قائده ومحركه زرع فيه البغضاء والكيد لكل خيّر .. أليس الشيطان العدوَّ الأول الواضح العداوة للإنسان ؟ " إن الشيطان للإنسان عدو مبين " . 4- أما النفس فهي ثلاثة أنواع : أ- النفس المطمئنة : وهي التي يمتاز بها السابقون إلى الخيرات ، هي النفس التي كان يقينها بالله يعمر القلب والفكر ، ويترجمها العمل الصالح وخشية الله تعالى والسعي إلى مرضاته ، هذه النفس لا يستطيع الشيطان الدنوّ من صاحبها فإنه يحترق من وهج الإيمان المنبعث منه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للفاروق رضي الله عنه – وما أدراك من الفاروق – "يا عمر ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك " ب- النفس الأمارة بالسوء : وهي التي أسلمت للشيطان قيادها فهو يقودها حيث شاء ، ولا يتعب في إفسادها ، ولعلها مفسدة كالشيطان نفسه ، وصاحبها يعمل عمل الشيطان في الوسوسة والغواية " قل أعوذ برب الناس ،ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " ج- النفس اللوامة : وهي التي يحاول الشيطان غوايتها ، فإن ظن أنه تمكن منها ، وشعرت أنها زلت استغفرت الله وتابت إليه ، فهذه أشد على الشيطان من الأخريين ، يقول : يا ويلتاه ، ضاع جهدي فيها هدْراً ، وقد أقسم الجليل بها " لا أقسم بيوم القيامة ،ولا أقسم بالنفس اللوامة . " وقد زينت نفوس إخوة يوسف السيئة – إذ ذاك – أن يتخلصوا منه ، ورأى أبوهم يعقوب الغدر في عيونهم حين قدموا عليه ليلاً بعد أن غدروا بأخيهم ، فقال لهم يستنكر تخطيطهم السيء " بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً " 5- لِمَ " ...كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين " ؟ إن من أراد مثالاً يُحتذى في الأخلاق والصبر فعليه بقصة يوسف . إن فيها العبر والعظات التي ينبغي على الداعية أن يتجمّل بها في حياته . والسؤال مفتاح العلم .. إن من رزقه الله قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً نال مراتب العلم . 6- وتمر في ثنايا القصة كلمة " ضلال " وهي في هذه السورة لا تعني البعد عن الهدى والإيمان . إنها بمعنى الوقوع في الخطأ على الرغم من الهداية ، والحيدان عن التصرف السليم . فالأبناء يصفون حب أبيهم الزائد لابنه يوسف بالضلال " ... إن أبانا لفي ضلال مبين " وخطأ فادح واضح . كما أن الأب حين يقول " إني لأجد ريح يوسف ..." كان ردهم الاستنكار والتسفيه " تالله إنك لفي ضلالك القديم " والنسوة اللواتي سمعن عشق امرأة العزيز فتاها يوسف ، استنكرن منها أن تحب خادمها ، وكان على امرأة في مثل مكانتها أن تحب رجلاً من سادات القوم ، فنعتنها بالضلال – الخطأ- " ... امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، قد شغفها حباً ، إنا لنراها في ضلال مبين " وكل من يخالف بعضهم في تصرفاته يُتّهم بالضلال والوقوع في الخطأ . 7- إخوة يوسف – والكثير من الناس – يرون الأكثرية دائماً على صواب وغيرهم على خطأ ، وليس هذا بصحيح ، " إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا ، ونحن عُصبة ... " ويؤكد القرآن الكريم خطأ هذه النظرة مرة أخرى حين يقول :" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وينتصر القليل بصوابه على الكثير بخطئه " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " لأنها على الحق والله تعالى معها في دفع الباطل ومحاربته . وبهذا تسفّه الأكثرية الآخرين وتستضعف عقولهم " إن أبانا لفي ضلال مبين " 8- ثم يسعون - بناء على هذه القناعة- إلى أن يزيحوا الحق من الطريق بالسبل غير المشروعة بالقتل أو النفي أو التغييب " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يَخْلُ لكم وجه أبيكم ..." وهذه الطرق تنبئ عن الإفلاس وسوء التفكير وضعف النفس – ماهكذا تورد يا سعد الإبل – 9- ثم نجدهم يصرّحون دون مواربة ، ولا خجل أنهم حين يصلون إلى هدفهم - وهو التخلص من يوسف - يصبحون صالحين وهم مخطئون كاذبون ، حين يرون الإجرام والطرق الملتوية في الوصول إلى المآرب متناسقة مع الفطرة السليمة ، وهيهات هيهات أن يجتمعا ، ولن تكون الميكيافيلية طريقاً إلى السعادة الحقيقية . ولم يكن سبيل الشر في يوم من الأيام وسيلة للوصول إلى تصحيح الخطأ . 10- لن أتجاوز الأدب مع مقام النبوة –بإذن الله تعالى – حين أكرر الحقيقة الساطعة في التعامل مع الأبناء ، فلا يجوز التفريق في المعاملة بين ولد وآخر ، ألم يقل أحد المربين يصف حبه أولادَه وإنـمــا أولادنــا بـيــنــنــا .. أكبادنـا تمشي على الأرض لو هبّت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض وقد سُئِل أحدهم : أي أبنائك أحب إليك ؟ قال الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى ، والغائب حتى يعود ) .. إنه ينبغي معاملة الأبناء على قدم المساواة حتى لا يكره بعضُهم بعضاً ، ولكي يشعروا بمكانتهم عند أبويهم جميعاً ، فلا يحزن أحدهم ، ولا تضيق نفسه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للبشير بن سعد حين جاءه ليشهد على أن البشير نحل ابنه النعمان بعض ماله دون غيره من الأبناء( أفعلت هذا بأبنائك كلهم) ؟ قال لا، فقال صلى الله عليه وسلم ( فأشهد على هذا غيري )، ثم قال : ( أيسرك أن يكونوا في البر إليك سواء ) قال نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) . أما يعقوب عليه السلام فقد مدحه المولى سبحانه وتعالى مع جده إبراهيم وأبيه إسحاق صلوات الله عليهم فقال في سورة (ص) : " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ، إنا أخلصناهم بخالصة : ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطَفَيْن الأخيار " فلا نشك أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان نعم الأب الرحيم لأبنائه ، إلا أن أبناءه غير يوسف – عليه السلام - وأخيه كانوا منصرفين عن الحق في بعض تصرفاتهم ، مستمرئين الوقوع في الإثم ، وفي السورة دليلٌ ، من ذلك : أنهم لم يروا من اتخاذ القتل أو التغييب عيباً للوصول إلى غايتهم ، ورمَوا أخاهم في الجب يبغون هلاكه ، وكذبوا أمامه وهم لا يعرفونه حين وصفوه بالسرقة " إن يسرقْ فقد سرق أخ له من قبل " . 11- الملفت للنظر توافقهم على السوء ولو بدرجات متفاوته ، فبعضهم أراد قتله وطرحَه أرضاً ، وبعضهم كان أقل سوءاً فطلب أن يُلقى في الجب يسترقـّه تجار القوافل المسافرون ، إلا أنهم بعد المداولة " أجمعوا " على طرحه في الجب " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " ونحن نعلم أن الأخوّة كنز ثمين يتراحم به الناس ، ويوسف عليه السلام حين رأى أخاه بنيامين آواه إليه و " قال : إني أنا أخوك ، فلا تبتئس بما كانوا يعملون " . لكنّ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء غطيا على عقولهم وأعميا أبصارهم . 12- والأب العارف بالله ،النبي الكريم يعقوب يعلم أنهم كاذبون بما ادعوا من أكل الذئب ابنه يوسفَ فالرؤيا التي رآها يوسف لا بد أن تتحقق ، ولا بد للابتلاء أن يكون ، ورفع الدرجات للصابرين صبراً جميلاً ، وصفة " الجميل " تعني الثبات على تحمل الشدائد ، والكمال في الصفات : " فصبر جميل " وهناك الهجر الجميل ، والتسريح الجميل والصفح الجميل ..... وهي صفات محببة إلى الله تعالى وإلى خلقه . وكان مما صبّر الله تعالى يوسف وهو في الجب أنه سينبئ إخوته بفعلتهم الشنيعة هذه وهم لا يشعرون بذلك " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " فعلم يوسف أنه في محنة سوف ينجيه الله منها ، فما عليه إلا أن يصبر . 13- دعاء رائع دعا به يوسف عله السلام ، وهو في الجب ، - يُقال : إن جبريل عليه السلام علمه إياه ليفرج الله تعالى كربته وينقذه مما وقع فيه ، نذكره – على ما يقال في صحة قصته ونسبته إلى الإسرائيليات ، فهو توجه صادق إلى الله تعالى : (اللَّهُمَّ يَا مُؤْنِس كُلّ غَرِيب , وَيَا صَاحِب كُلّ وَحِيد , وَيَا مَلْجَأ كُلّ خَائِف , وَيَا كَاشِف كُلّ كُرْبَة , وَيَا عَالِم كُلّ نَجْوَى , وَيَا مُنْتَهَى كُلّ شَكْوَى , وَيَا حَاضِر كُلّ ملإ , يَا حَيّ يَا قَيُّوم أَسْأَلك أَنْ تَقـْذِف رَجَاءَك فِي قَلْبِي , حَتَّى لا يَكُون لِي هَمّ وَلا شُغـْل غَيْرك , وَأَنْ تَجْعـَل لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا , إِنَّك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير). والدعاء مخ العبادة ، وعلامة العبودية لله تعالى وسبيل التذلل إليه . " وقال ربكم ادعوني أستجِبْ لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " .
14- ولا ننسَ أنّ ما يُؤخذ بالقليل ، يُباع بالقليل ، فلما أخذه الواردون من البئر دون ثمن ، باعوه " بثمن بخس دراهم معدودة ، وكانوا فيه من الزاهدين " إن الآباء حين يبذلون قصارى جهدهم في تعليم أبنائهم الدين الحنيف ، ويربونهم عليه ، ويأطرونهم عليه ، فيكون الإسلام مدار حياتهم يتمسك الأبناء به ويجعلونه نبراسهم في كل أمورهم ، ويحافظون عليه حفاظ الشحيح على ماله والأم الرؤوم على ولدها . وحين يكون أثر الإسلام في نفوس الأبناء قشرة ضعيفة وغلالة رقيقة يهون عليهم ، فيضيّعونه غير آبهين ولا مهتمين بما يُحاك له ولهم .
تأملات تربوية في سورة يوسف (3) الدكتور عثمان قدري مكانسي
1- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعاملة الخدم والعبيد معاملة إنسانية طيبة ، فهم بشر مثلنا ، لهم أحاسيس ومشاعر، يسعدون للكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة ، ويألمون للكلمة السيئة وسوء المعاملة بل إن النبي صلى الله علية وسلم أمرنا باللطف في نداء الخادم والحديث عنه فقال : "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ولا يقولن المملوك ربي وربتي وليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب الله عز وجل " فيدعو المالكُ مملوكه بـ : يا فتى ، وينادي المملوك ُمالكه : سيدي . كما أُمرنا أن لا نتميّز عنهم بطعام أو لباس " من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ومن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله " . ونرى العزيز الذي اشترى يوسف عليه السلام عاقلاً يأمر زوجته ان تحسن إليه ، فقد يرد إليهما الإحسان إحساناً حين يكبر في دلهما إياه وحسن تصرفهما إزاءه ، وقد يتبنيانه إذا رأيا فيه الصلاح والنجابة " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته : أكرمي مثواه ، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً " وهكذا هيأ الله تعالى ليوسف الحياة الطيبة مع هذا الرجل الأريب الذي ظهر لنا رجاحة عقله في أمور منها ماقاله آنفاً في الإحسان إلى يوسف ، وحين تبين له خطأ زوجته وانكشاف أمرها ، فعقـّب " إنه من كيدكنّ ، إن كيدكنّ عظيم " وحين طلب إلى يوسف أن يتجاوز الأمر ويتناساه فلا ينبغي أن يخرج الخبر إلى حيّز الإحراج والنيل من هيبة العزيز ، فأوحى بكلمة ( أعرض ) إلى صدق يوسف إذ لم يتهمه ، إنما طلب إليه بتعطف أن يتجاوز الأمر . كما وبخ المرأة وطلب منها الاستغفار لخطئها العظيم ، حين جعلها من ( الخاطئين ) لا الخاطئات فقط ، وهذا دليل على استعظامه الأمر وقوة توبيخه إياها " يوسفُ أعرض عن هذا ، واستغفري لذنبك ، إنك كنت من الخاطئين " كما أن كلمة ( الخاطئين ) توحي بأن الزنا ذنب كبير وفاحشة عظيمة ، أفعله الذكور أم الإناث . 2- أعتقد أن في الآيات ما يؤكد أن يوسف الشاب لم يهم بها كما همّت به لأسباب ذكرت في معرض القصة تؤكد ذلك ، منها : أ- أنه الله تعالى وهبه حكمة تمنعه من السفاهة وعلماً بالحلال والحرام ، رفعه إلى رتبة الإحسان " ولما بلغ أشدّه آتيناه حكمة وعلماً وكذلك نجزي المحسنين " فالحكمة والعلم الحقيقيان حصن من الزلل، وأما الإحسان فأن تعبد الله كأنك تراه ، ومن كان يرى الله بقلبه وحاز الحكمة
هام جداً: قوانين المساهمة فيالمواضيع. انقر هنا للمعاينة
احترم مواضيع الآخرينليحترم الآخرون مواضيعك لا تحتكر الموضوع لنفسك بإرسال عدة مساهماتمتتالية عند طرح موضوع يجب أن تتأكد أن عنوان الموضوعمناسب او لا تحل بحسن الخلق و بأدبالحوار و النقاش لا تنس أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية, فلاتتهجم على عضو بدعوى أنه لا يشاطرك الرأي ان قطعت عهدآ مع عضو فأوفي بوعدك لأنه دينعليك إن حصل خلاف بينك و بين عضو حول مسألة ما فلاتناقشا المشكله على العام بل على الخاص اناحترمت هذه الشروط البسيطة, ضمنت حقوقك و عرفت واجباتك. و هذه افضل طريقةتضمن بها لنفسك ثم لمساهماتك و مواضيعك البقاء و لمنتداك الإزدهار فيموقعنا إدارة منتديات انضم الينا www.anthamelina.com